اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الله تعالي في مُحكم كتابه الكريم:
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا).(1)
صدق الله العليّ العظيم

أسرار قُرانيّة في حقائق وأنوار مُحمّد وآل مُحمّد صلوات الله عليهم

السّر الخامس


في بيان أنّهم صلوات الله عليهم، يعلمون ما كان وما يكون، ولا تخفى عنهم غائبة، لا في سماوات ولا في أرضين، بل كُلّ شيء حاضر لهم، كحضور النّفس لذاتها وذاتيّاتها، فعلمهم صلوات الله عليهم بالأشياء، علم إحاطة لا علم حصول.

تقريب الاستدلال:

لا ريب أنّ القُرآن الكريم، فيه تبيان كُلّ شيء، من الذّرة وأصغر، إلى المجرّة وأكبر.. وهو مُحيطٌ إحاطة تامّة شاملة، لكُلّ دقائق وتفاصيل الحياة، وما يتعلّق بها.. وهذه ثابتة قُرآنيّة، لا غبار ولا غموض فيها...
قال تعالى في كتابه المجيد: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَاب مُبِين).(2)
وقال تعالى: (وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين). (3)
وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُـجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا). (4)
وقال تعالى: (وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّماءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين).(5)
وقال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْء). (6)
إذن، بعد أن أوضح لنا الله تعالى، أنّ علم ما كان وما يكون، وما من صغيرة ولا كبيرة، ولا من غائبة في سماوات أو في أرضين، بل إنّ كُلّ شيء موجود في الكتاب، وللكتاب الإحاطة التّامّة بكُلّ شيء. وأخبرنا تعالى بأنّ كُلّ هذا وغيره، أورثه للذين اصطفى من عباده. فمن هم المُصطفون، الذين يعنيهم الله تعالى في كتابه المجيد؟
نقل الشّيخ الصدوق رحمه الله، في عيون أخبار الرّضا عليه السّلام، عن الرّيّان بن الصّلت، قال: حضر الرّضا عليه السّلام، مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من عُلماء أهل العراق وخراسان، فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)(7) فقالت العُلماء: أراد الله عزّوجل بذلك الاُمّة كُلّها. فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرّضا عليه السّلام: لا أقول كما قالوا، ولكنّي أقول: أراد الله عزّ وجلّ بذلك العترة الطّاهرة... فقال المأمون: من العترة الطّاهرة؟
فقال الرّضاعليه السّلام: الّذين وصفهم الله في كتابه، فقال عزّ وجلّ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).(8) وهم الّذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم: إنّي مخلّف فيكم الثّقلين كتاب لله وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهّما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيّها الناس لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم. قالت العُلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة، أهم الآل أم غير الآل؟ فقال الرّضاعليه السّلام: هم الآل... قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال: من قول الله عزّ وجلّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَد وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ). (9) فصارت وراثة النّبوّة والكتاب للمُهتدين دون الفاسقين، أمّا علمتم أنّ نوحاً حين سأل ربّه عزّ وجلّ : (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ).(10) وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وعده أن ينجيه وأهله، فقال ربّه عزّ وجلّ: (قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). (11) فقال المأمون: هل فضّل الله العترة على ائرالناس؟ فقال أبو الحسن: إنّ الله عزّ وجلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب الله؟ فقال له الإمام الرّضا عليه السّلام: في قول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).(12) وقال عزّ وجل في موضع آخر: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً).(13) ثمّ ردّ المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين، فقال:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). (14) يعني، الّذي قرنهم بالكتاب والحكمة، وحسدوا عليهما... الخبر.(15)
فهذه الثّوابت القُرآنيّة، التّي نصّ عليها القُرآن الكريم صريحاً: ما من صغيرة ولا كبيرة.وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب. ما أصاب من مصيبة ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب، هذه ثوابت قُرآنيّة. وإذا كان هذا الكتاب أورثه الله تعالى للأئمة الأطهار صلوات الله عليهم، وهذه ثابتة قُرآنيّة أيضاً، إذن، عندهم صلوات الله عليهم، كُلّ شيء ممّا كان أو يكون أو هو كائن، وكُلّ شيء منطو في مكنون ذواتهم صلوات الله عليهم، والحقيقة إن هذه الأسرار القُرآنيّة في حقائق وأنوار مُحمَّد وآل مُحمَّد، تحتاج في فهمها والإيمان والتّسليم بها إلى قلبٍ مُنشرح بالإيمان، حتى يُفهم المُراد الحقيقي منها، ويستخرج العُلوم والمعارف الّتي تكتنفها. أمّا الذي يجد في نفسه حرجاً، أو عدم تفاعل مع هذه الأنوار القُدسيّة، فعليه مُراجعة نفسه، وتصفيتها من الأكدار والعوالق الّتي عُلقت بها، نتيجة ابتعاده عن العُلوم الحقّة، واتّباع هذا وذاك، ممّن عشعش المرض في قلوبهم، وأورثهم الحسد والبغض، لكُلّ ما هو خير، وأخذ يُشكّك في حقائق ومقامات مُحمّد وآل مُحمّد صلوات الله عليهم أجمعين، بحجّة أنّ هذا الكلام غير مُسند أو ضعيف، وحجج اُخرى واهية. فنقول له: بأنّ هذا الكلام النّوراني يحتاج إلى محلّ مُصفّى من الأكدار، حتّى تفيض عليه المواهب الرّحمانيّة.
والحمد لله ربّ العالمين
هذه مُقتطفات قصيرة من الأنوار الإلهيّة، والأسرار الرّبانيّة، المودعة في كتاب الله الكريم، والمُتحصلة في الخارج بأرباب النّعم وهُداة الأمم، مُحمّد وآل مُحمّد، صلوات الله عليهم أجمعين، نحن مستعدون للحوار في بيانها، والإجابة على الاستفسارات التي يطرحها الأخوة والأخوات؛ ليكون البحث واضحاً والغرض مُتحققاً، جعلنا الله وإيّاكم، من العارفين بحقّ مُحمّد وآل مُحمّد، صلوات الله عليهم، والعاملين بذلك، والمحشورين في زُمرتهم، إنّه سميع مُجيب ، والله من وراء القصد.1
عبد الكريم العُقيلي
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
1 ـ فاطر:32.
2 ـ هود: 6.
3 ـ الأنعام : 59.
4 ـ الكهف :49 .
5 ـ النّمل :75.
6 ـ الأنعام : 38.
7ـ فاطر: 32.
8 ـ الأحزاب:33.
9 ـ الحديد: 26.
10 ـ هود: 45.
11 ـ هود: 46.
12 ـ آل عمران: 33- 34.
13 ـ النّساء: 54.
14 ـ النّساء: 59.
15 ـ عيون أخبار الرّضا عليه السّلام للشيخ الصدوق: 2 / 207.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.