اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

 
اسم البحث او المقالة : رسالة مُختصرة في شهر رمضان
الكاتب : الدكتور العلامة الشّيخ عبد الكريم العُقيلي
الموضوع : أبحاث عامّة
تاريخ النشر : 1427



بسم الله الرّحمن الرّحيم

رسالة مُختصرة في شهر رمضان(1)

الأخ نادر المتروك، والإخوة الأكارم في جريدة الوقت البحرينيّة جميعاً، دام تأييدهم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نظراً لكثرة الانشغال واضطراب البال، بما يجري في الحال والمآل أختصر-مُعتذراً- في هذا المقال, علّني أٍوفّق بإذن الله في وقت آخر لبسط الكلام، وتفصيل الجواب...
أمّا بخصوص السّؤال الأوّل: كيف يمكن المحافظة على الحيوية الإيمانية في شهر رمضان في ظل المظاهر الاستهلاكية؟ فإنّه في مقام الجواب, أقول:
ورد عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله، أنّه قال:
من غلب علمه هواه فذاك علم نافع، ومن جعل شهوته تحت قدميه فرّ الشّيطان من ظلّه.(2)
وقد ورد في الأخبار الشّريفة، عن المعصومين عليهم السّلام، قولهم:
حفّت الجنّة بالمكاره، والنّار بالشّهوات. التي تُشير إلى احتفاف أهل الاستقامة بأنواع الابتلاءات، التي ما إن تجاوزوها باقتدار إلا حازوا بالصّبر والتّجلّد المُنى, وفازوا بكأس القدح المُعلى.
ومن خُطبة للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، قال فيها: انتفعوا ببيان الله، واتعظوا بمواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله. فإن الله قد أعذر إليكم بالجلية. واتخذ عليكم الحجة. وبين لكم محابه من الاعمال ومكارهه منها لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: " إن الجنة حفت بالمكاره وإن النار حفت بالشهوات " وأعلموا أنه ما من طاعة الله شئ إلا يأتي في كره. وما من معصية الله شئ إلا يأتي في شهوة. فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته. وقمع هوى نفسه... واعلموا عباد الله أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده... واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ، والمحدث الذي لا يكذب . وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان في عمى.....(3)
وللمحافظة على الحياة الدّينيّة، والمسيرة الإيمانيّة ينبغي تدارك ومُلاحظة الأمور التّالية: الأمر الأوّل: إيجاد البدائل المُلائمة لمُقتضيات عصرنا, كإعداد المجالس، التي يُهيىء فيها البرامج المُتنوّعة، على المُستوى العلمي والاجتماعي والدّيني وغيرها.
الأمر الثّاني: توفير المناخ المُناسب للقاء الأخوة بشكل مُتواصل ودوري، للتّذاكر والتّشاور وما إلى ذلك, وكذا بالنّسبة إلى الأخوات فيما بينهن، للتّعارف والتّعرّف على مهامهنّ ووظائفهنّ الدّينيّة والاجتماعيّة. الأمر الثّالث: التّوعية المُنظّمة للنّاس، وخصوصاً الشّباب بأخطار المظاهر المُبتذلة الجوفاء، وما يترتّب عليها من خيبة وحرمان, وتوجيههم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويبقى لهم من المظاهر المستقرة, لقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.(4)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.(5)
وقوله الفصل جلّ وعلا: كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ.(6)
وأمّا بخصوص سؤالكُم الثّاني: ما هي أهم العوامل التي تجعل شهر رمضان شهراً عبادياً مُنتجاً في بقية أشهر السّنة؟
فإنّه لو دقّقنا النّظر، فيما ورد عن الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، في فضل هذا الشّهر الكريم, أنّه قال: ... أيّها النّاس، من حسّن منكم في هذا الشّهر خلقه، كان له جوازاً على الصّراط، يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمينه، خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّّ عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النّار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور، ومن أكثر فيه من الصّلاة عليّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آية من القُرآن كان له مثل أجر من ختم القُرآن في غيره من الشّهور، أيّها النّاس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مُفتّحة, فاسألوا ربّكُم أن لا يغلُقها عليكُم، وأبواب النّيران مُغلقة، فاسألوا ربّكُم أن لا يفتحها عليكُم, والشّياطين مغلولة فاسألوا ربّكُم أن لا يُسلّطها عليكُم. قال أمير المؤمنين عليه السّلام فقمت، فقلت : يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشّهر ؟ فقال : يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشّهر، الورع عن محارم الله عزّ وجلّ ...(7)
وذلك بتقريب، إنّ هذه المُدة، وهي شهر كامل, إذا أعدّ الصّائم عدّته, وشمّر عن ساعد الجدّ همّته، وامتنع عمّا حُرّم فسوف تحصل له- وبعناية الله تعالى ووليّه الأعظم عجّل الله فرجه الشّريف - ملكة، تُمكّنه من توفير الخزين من القُدرات الهائلة، في الأشهر الآتية، في جانب المُحافظة على دينه، وصيانة نفسه، ومُخالفة هواه، وإطاعة مولاه. وهذا من أهمّ الأسرار التي لم تُفهم بشكل جيد؛ ليُتاح للصّائم معرفة سرّ الصّيام الحقيقي، والتّجنّب عن الحرام، خصوصاً في شهر رمضان, ولتوضيح المُراد، أقول: للإنسان جنبتان: جنبة ظاهريّة يُعبّر عنها بالجسم، وجنبة باطنيّة وهي التي يُعبّر عنها بالنّفس والرّوح، ففي جانب الظّاهر من الإنسان، أي جانب الجسم، لو أنّ إنساناً تمرّن يومياً، ولمُدة شهر كامل على تمارين خاصّة؛ لتقويم وتنظيم جسمه، فإنّه سوف يجد في هذه المدّة حصول عوامل التّغيير، التي تُمكّنه من المُداومة والاستمرار, والقُدرة على مواجهة الأخطار، سواء كانت من داخل كيانه أم من خارجه, والأمر لا يختلف كثيراً في الجنبة النّفسيّة الرّوحيّة, بل في هذه الجنبة أثر التّقويم والتّرويض والتّنظيم أبلغ وأكثر تأثيراً، فلو راقب الإنسان نفسه، وأعدّ لها ما يمنعها من الوقوع في الهلكة بالتّرويض، فإنّه وبعون الله تعالى يتمكّن منها، ويمكّنها لفعل الخير المنشود.
يقول أمير المؤمنين، وقطب دائرة العارفين عليه السلام:
وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى؛ لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مُصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن، هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القُرص ولا عهد له بالشّبع ، أو أبيت مُبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ؟ أو أكون كما قال القائل: وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحنّ إلى القد, أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش...(8)
وقال الإمام زين العابدين عليه السّلام: الخير كُلّه صيانة الإنسان نفسه.(9)
فتأمّل، تغنم.
وأمّا المقام الثّالث من سؤالكم، وهو: هل تعتقدون أن الخطط البرامجية القائمة في شهر رمضان مناسبة أم أنها تحتاج إلى تطوير؟ وكيف؟
فنقول: لا يخفى على أولي النّظر، وأرباب الفكر، أنّ الخُطط والبرامج في شهر رمضان، على المُستوى الإيماني عموماً، هي في مراحل الحبو، أو في السّطح الأوّل- إن صحّ التّعبير- مما نشاهده في الجانب المُقابل، من برامج في أغلب المجالات، سواء كانت في الفُنون أو العُلوم أو المُجون، فهذه الفضائيّات وغيرها، تشدّ البعض عند الإفطار إلى مسارحها ومسرحياتها، عبر مسلسلات مُنظّمة ومُبرمجة، يشرف عليها أخصائيّون، وينفّذها فنّانون ماهرون, وإنّي واثق من أنّ نسبة كبيرة من الأهالي وخصوصاً الشّباب يُتابعونها باهتمام، ويقضون معها أوقات ليست بالقليلة، فهل عندنا القُدرة على إيجاد ما يؤمّن لنا المُتابعة، ولو بنسبة قليلة، مُقابل تلك البرامج، وفي مقام الجواب أقول، وبضرس قاطع: إنّ المقتضيات عندنا موجودة- لو اجتمعنا وتعاضدنا جميعاً- فما نمتلك من القُدرات والإمكانات تؤهّلنا إلى المقام الأوّل، في إعداد وتنفيذ البرامج الهادفة، علميّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة وما أشبه. والذي يبدو لي من خلال مسيرة التّجارب، في مُختلف البُلدان، أوروبيّة أو أسيويّة وغيرها، كطرح يضمن لنا أمانينا في السّبق والتّقدّم, هو مجموعة أسس وقواعد فيما أخال، تُساعد في بناء الأجيال، وتغيّر الأحوال، منها:
أوّلاً: المُساهمة الجادّة في فتح القنوات الفضائيّة الهادفة المُستقلّة، التي ترى الأمّة ومُعاناتها، والتي تمهيد للمُنقذ المُرتقب، قبل شخوصها وأشخاصها.على غرار– كمثال - مُسلسل الإمام عليّ عليه السّلام، الذي بثّته على قنواتها الأرضية إحدى الدّول الإسلاميّة، والذي استقطب الملايين... ويهيىء لهذه القنوات الفضائيّة الهادفة المُستقلّة قبل شهر رمضان، ويُعلن عنه ضمن خُطة مُبرمجة ومُنظّمة, وما نراه من بعض الفضائيّات الإسلاميّة من برامج، هو في واقع الأمر في المراحل التّمهيديّة، والسّبب في ذلك كُلّه يعود إلى أمر أساسيّ وجوهريّ، هو انكماش أصحاب هذه الفضائيّات على خطّ معيّن، وخطّة موضوعة من قبلهم، ولذلك لا تُعمّر ولا تُثمر على المدى البعيد والمستوى العام، إلا أيّاماً قصاراً.
ثانياً: جلب الأنظار إلى المُشاركة في مُسابقات الشّهر الفضيل، في تأليف الكُتب، تحت عناوين مُنتخبة، من أبحاث علميّة أو قرآنيّة أو أدبيّة وما إلى ذلك, وتقدّم للأوائل الجوائز، كما نقل في عصر أحد العباسيّين، حيث كان يبذل بإزاء ما يؤلّف السّكك الذّهبية، حتّى انتشر التّأليف والتّدوين، وكثرت البُحوث والمقالات في وقته، وعمّ البلاد الحوار العلمي، والمُناقشات الهادفة، فساهم هذا إلى حدّ بعيد على رفع درجة الازدهار والرّقي في تلك الفترة من تاريخ الأمّة, وهذا الأمر كفيل بانشغال النّاس بواجباتها ومهامّها، عن المُغريات والمُلهيات.
ثالثاً: إعداد أماكن للتّزاور والتّلاقي، مثل الدّيوانيات أو الهيئات أو الحُسينيات أو المساجد وغيرها, والغرض من ذلك كُلّه: هو وضع البرامج العلميّة، والتّحاور بشأنها, كما نفعل نحن هنا في الكويت، في أيام شهر رمضان، وذلك من إعداد برامج التّدبر في القُرآن الكريم، بأن يقرأ كُلّ مُشارك آيتين، وبعدها يُشارك الحُضور في التّدبر في معاني الآيات، ويقع النّقاش الذي يؤتي أُكله كُلّ حين، بإذن ربّه، من خلال الأنظار والآراء. هذا ما أردنا بيانه، سائلين المولى أن يوفّقنا وإيّاكم لما يحبّ ويرضى، وأن يجعلنا من الدّعاة إلى طاعته، والقادة إلى سبيله، تحت راية وليّه, إنّه سميع مُجيب
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته 


الهامش: 
1 – هذه الرّسالة القيّمة كتبها سماحة آية الله الحاج الشّيخ عبد الكريم العُقيلي، جواباً على سؤال من الأخ نادر المتروك، وبعض الإخوة في جريدة الوقت البحرينيّة. هذا نصّ السّؤال:
السؤال: سماحة الشيخ، بعد تحياتي الخالصة لكم، وتمنياتي لكم بالموفقية، فيما يلي أسئلة حول شهر رمضان، آمل منكم الإجابة عليها لنشرها في جريدة الوقت البحرينية ضمن صفحة خاصة بشهر رمضان الكريم، وكُلّ عام وأنتم بخير.
الأسئلة:
- كيف يُمكن المحافظة على الحيويّة الإيمانيّة في شهر رمضان في ظل المظاهر الاستهلاكية؟
- ما هي أهم العوامل التي تجعل شهر رمضان شهراً عبادياً مُنتجاً في بقية أشهر السّنة؟
- هل تعتقدون أنّ الخُطط البرامجيّة القائمة في شهر رمضان مُناسبة أم أنّها تحتاج إلى تطوير؟ وكيف؟
2 - روضة الواعظين للفتال النّيسابوري: 421.
3 - نهج البلاغة، خُطبة رقم: 176. 
4 - النّحل: 95- 96.
5 - آل عمران: 77.
6 - الرّعد: 17.
7 - فضائل الأشهر الثّلاثة للشّيخ الصّدوق: 77.
8 – نهج البلاغة، من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الإنصاري وهو عامله على البصرة.
9 - تُحف العُقول لابن شُعبة الحراني: 278.