اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

 
اسم البحث او المقالة : الإمامة في المفهوم القرآني
الكاتب : السيد محمّد القاضي
الموضوع : فضل أهل البيت (عليهم السلام)
تاريخ النشر : 05/10/2007



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الإمامة في المفهوم القرآني

الأوضاع السياسية التي منيت بها أمة الإسلام من لحظات رحيل خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، وإلى يوم الناس هذا، ومحاولة في إضفاء الشرعية على سلطات الوقت الحاكمة، سبب ذلك غياب الكثير من مفاهيم الإسلام الأصيلة عن وعي الأمة، وتسمية الأشياء بغير أسمائها وطرح المفاهيم بحالة من السطحية، وفقاً لما تمليه السياسية في تمشية أوضاعها وفرض سيطرتها بالقوة والعنف على رقاب الناس.
ومن تلكم المفاهيم التي حاولت السياسة التعتيم على معناها تارة، وتسميتها بغير اسمها تارة أخرى، هو مفهوم (الإمام) الذي حوّلته السياسة إلى (القائد) و(المرشد) و(القدوة) بعد أن كان القرآن الكريم قد أوضح مفهومه – في أكثر من آية - وحدد معالمه، بشكل يقل نظيره في الكتاب المجيد، مما يدلّل على أهميته في نظره، بعيداً عن تلاعب الأهواء والعواطف.
وهذا ما نحاول أن نتلمّسه من القرآن الكريم في هذا البحث، ونستوحيه من آياته المباركات.
قال الله تعالى:(وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتهمنَّ قال إنِّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين).(1) وأدنى تأمل في هذه الآية المباركة يفيدنا أن جعل الإمامة لإبراهيم عليه السلام كان بعد النبوّة، وذلك من خلال النقاط التالية:
أوّلاً: إنّه كان بعد الابتلاء والامتحان، ومن الواضح أن الابتلاء كان بعد النبوة، ومن جملته الابتلاء بذبح ولده كما قال تعالى: إن هذا لهو البلاء المُبين.(2) 
ثانياً: إنّ إبراهيم عليه السلام طلب الإمامة لذريته، وهذا لا يصحّ لمن كان آيساً منها، كما حكى القرآن الكريم عنه ذلك حين بشارته بالولد، فلابد أن يكون قد منح ذرية آنذاك ليطلب لهم الإمامة، ومن الواضح أن ذريته صارت بعد نبوّته وشيخوخته.
ثالثاً: إنّه كان يتمتع بمخاطبة الملائكة والوحي، كما يشهد به هذا الحوار الذي ترسمه لنا الآية المباركة هذه، ومن هذه الدلائل أيضاً على نبوته آنذاك.
فإذا صحّ هذا الفهم من الآية الكريمة لا يبقى لنا مجال للقول بأن الإمامة هي النبوة، بل هي مقام آخر أعلى من النبوة، كما أنها ليست بمعنى: القدوة أو الرئاسة أو الخلافة وما إلى ذلك، لأن جميع ما ذكر من المعاني موجود في النبوة، ولا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة: إني جاعلك للناس نبياً، أو مطاعاً فيما تبلغ من نبوتك، أو رئيساً تأمر وتنهى عن الدين، أو وصياً، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.(3)
فإنَّ جميع هذه الأمور من لوازم النبوة وليست شيئاً طارئاً عليها، ومن هنا فلابد أن تكون الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.
وأيضاً تفيدنا الآية الكريمة أن مقام الإمامة مقام إلهي، وعهد الله تعالى إلى أوليائه وأصفيائه، ولابد فيه من الجعل الإلهي، وليس بيد أي أحد من الناس، حتى الأنبياء، فقد سألها إبراهيم الخليل عليه السلام لذرّيته، ولم يستجب له إلا في مجموعة قليلة منهم، وهو قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين.
ومن هنا لابد من الرجوع مرة أخرى إلى القرآن الكريم لمعرفة مفهوم (الإمامة) من خلال آياته الكريمة، وبقدر ما يسعه فهمنا من إدراك الحقائق الإلهية.
قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمَّا صبروا وكانو بآياتنا يوقنون)(4) 
وقال تعالى: (وجعلناهُم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(5) 
والآيتان الكريمتان تتفقان على تعريف الأئمة، أو توصيفهم بأنهم يهدون بأمر الله تعالى، وهذا يدعونا إلى التأمل في هذا التعريف أو التوصيف ليتسنّى لنا رسم صورة ولو إجمالية، أو متسمة بنوع من الضبابية أحياناً، عن دور الإمام في حركة الكون لهذه النشأة الدنيا، وللنشأة الأخرى. 
الإمام متصرف في النفوس تكويناً
الهداية: معناها الدلالة، وهي تارة تكون من خلال إراءة الطريق بالتعليم والإرشاد والإنذار والتبشير، وهذا ما نشهده في حركة الأنبياء والرسل ووظيفتهم تجاه الناس، قال تعالى: رُسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.(6) ، وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد.(7). 
وأخرى تكون الهداية والدلالة من خلال الإيصال إلى المطلوب مباشرة، وليست مجرد الإرشاد والتعليم الذي نسمّيه بإراءة الطريق.
والفرق بين الحالتين واضح، فإن إراءة الطريق وحدها لا تعطي الضمانة الكافية للوصول إلى المطلوب، فربما حاد الإنسان عنه قليلاً، وانقطعت به السبل وتلاقفه الموجه من كل مكان، وأخذ يزداد بعداً عن الجادة، ويزداد انحرافاً عن الطريق.
أما من يأخذ بيدك ويضعك على الطريق، ويخطو بك في كلّ خطوة، إلى أن يصل بك إلى ساحل الأمن والسلامة، تكون ضمانة الوصول حينئذٍ ضرورة، لأن الهادي أمين، والدليل عارف.
ونتيجة لذلك تكون الهداية بهذا المعنى من خلال التصرف الباطني في النفوس، وليست عملاً خارجياً كما في الحالة الأولى حيث الإنذار والتبشير، ولعله من هذا النوع من الهداية يشير قوله تعالى:(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام...)(8) ، وقوله تعالى: (الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)(9) فانشراح الصدر وليونة الجلود والقلوب كلها من التصرف الباطني بالنفوس.
فهذا النوع من الهداية إذاً، نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر.(10)
ولعله إلى هذا يشير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)(11) 
ومن خلال الآية السابقة في جعل الإمامة لإبراهيم عليه السلام يتضح لنا أن الهداية هنا ليست بالمعنى الأول من الإنذار والتبشير، لأنَّ تلكم كانت وظيفة النبوة، وقد كان إبراهيم الخليل عليه السلام يؤديها – بلا شك – قبل إمامته، فلابد من هدايته للناس بعد إمامته من النوع الثاني الذي يستتبع تصرّفاً تكوينياً في النفوس.
الأمر الإلهي هو الوجه الآخر للأشياء
الأمر تارة يأتي بمعنى الطلب، وجمعه: أوامر، وهو المعبر عنه بالأمر التشريعي، والذي يتضمّن الأوامر الإلهية في الأحكام، من الوجوب، والحرمة، والاستحباب، والكراهة، والإباحة.
وأخرى يأتي بمعنى الشأن، وجمعه: أمور، إلا أنه في القرآن الكريم كثيراً ما يأتي منسوباً إلى الله تعالى، كما في الآيتين المباركين – موردتا البحث – (يهدون بأمرنا) وقوله عزّ اسمه: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا.(12) ، وقوله: (فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيم * أمراً من عندنا إنَّا كنا مرسلين)(13) وكثير غيرها، وهذا ما يستوقفنا ملياً لاستيحاء المراد من (الأمر الإلهي) من خلال التأمّل في آيات القرآن الكريم، ومن باب إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً.
من بديهيات الإيمان بالله تعالى أن الأشياء الكونية كلها مستندة في وجودها وبقائها إليه سبحانه وتعالى، ومن المستحيل عقلاً انفكاكها عنه تعالى، ولولا أنه سبحانه يفيض عليها الوجود آناً بعد آن لما بقي شيء في الوجود وهذا من الوضوح مما لا يحتاج معه إلى دليل والبرهان.
وفي الوقت ذاته نجدها خاضعة لنظام السببية الكونية، والأسباب الخارجية الطبيعية، فهي كما تستند في وجودها وبقائها إلى الله تعالى تستند فيهما أيضاً إلى أسبابها الكونية الطبيعية التي خلقها الله تعالى فيها.
ومن هنا يمكننا القول: بأن لجميع الأشياء، جهتين في الوجود: جهة استنادها وانتسابها وارتباطها بالله تعالى، وتعلقها به، وقيامها به قياماً وجودياً، وفقرها إليه فقراً تاماً، وهذه الجهة لا تتغير ولا تتبدّل ولا تتلبس بالتدرج، بل هي بجميع وجودها تابعة لله سبحانه غير مستقلة ولا مستغنية عنه، فهي ملكه وبيده وفي خزائنه، وهذا ما يعبّر عنه بالوجود العيني.
والجهة الثانية للأشياء: هي وجودها المادّي، المستند إلى الأسباب الطبيعية التي أوجدها الله تعالى، وهي الجهة المنسوبة لنا، وهي جهة زائلة فانية مصحوبة بالزمان والمكان والحركة، معرضة للنقصان والزوال.
وإلى هاتين الجهتين أشار الكتاب العزيز بقوله تعالى: (ما عندكم ينفذ وما عند الله باقٍ)(14) وقال تعالى: (وإنَّ من شيءٍ إلا عندنا خزائنه وما تنزّله إلا بقدرٍ معلوم)(15) فإنهما تفيدان تعدد الجهات في انتساب الأشياء، فإن جميع المخلوقات (بدلالة الاستثناء في سياق النفي) باقية عند الله تعالى موجودة في خزائنه عزّ اسمه، ثابتة لا تزول، ولا تنفذ، ولا تتغيّر، إلا أن الله تعالى ينزلها مقدرة بمقادير معلومة، ومحدودة بحدود خاصة، قابلة للتغير والفناء.
فالأشياء في الجهة الأولى غير خاضعة لنظام الأسباب والمسببات الكونية، بل وجودها قائم بإرادة الله تعالى فحسب، بخلافها في الجهة الثانية فإنها خاضعة لنظام الأسباب والمسببات الكونية، فلا يمكنها أن توجد دفعة واحدة، بل لابد لها من الجريان في نظام الأسباب الكونية، كل بحسبه، من الإنسان إلى الشجر وإلى المعدن وما يحصى كثرة من مخلوقاته جلّ شأنه.
وهذه الجهة هي التي يسمّيها القرآن الكريم بـ (الخلق) و(الملك)، قال تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً...)(16) وقال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام وما مسّنا من لغوب)(17) والآيات المباركة كثيرة في ذلك.
بينما تسمى الجهة الأولى المنتسبة إلى الله تعالى وحده بـ (الأمر) و(الملكوت) في آيات كثيرة، قال تعالى: (إنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون)(18) وصريح الآية أن ملكوت الأشياء هو نفس الأمر الإلهي، وأن الأمر هو قوله عن اسمه للشيء إذا أراده (كن فيكون) وهو كناية عن إفاضته الوجود على الشيء من غير حاجة إلى شيء آخر وراء ذاته العلية، ومن غير تخلّف ولا مهلة ولا تدرّج.
ومن الواضح أنه ليس في (كن فيكون) قول لفظي من ذات الله سبحانه وتعالى، لأن القول يحتاج أيضاً إلى إيجاد، وهو أيضاً محتاج على القول مرة أخرى فيتسلسل لا إلى نهاية.. مضافاً إلى أن القول يحتاج إلى مخاطب سامع، والشيء قبل وجوده عدم لا يصح مخاطبته، وبعد تحصيل للحاصل.
وقال تعالى – أيضاً – (وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمح بالبصر)(19) وهذه الآية الكريمة من خلال التشبيه فيها بلمح البصر توضح لنا معنى الأمر الإلهي، وأنه مضافاً إلى كونه (واحدة) غير قابل للتخلّف، فإنه غير متدرّج ولا يعتريه نظام الأسباب الكونية ولا الزمان والمكان.
قال السيّد الطباطبائي في الميزان: ((وبه يعلم أن في الأشياء مكونة تدريجاً، الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان والمكان، جهةً معراة عن التدريج، خارجة عن حيطة الزمان والمكان، هي من تلك الجهة (أمره) و(قوله) و(كلمته).
وأما الجهة التي هي بها تدريجية، مرتبطة بالأسباب الكونية، منطبقة على الزمان والمكان، فهي بها من الخلق، قال تعالى: (ألا له الخلق والأمر) فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده، والخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.
ويستفاد ذلك أيضاً في قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) الآية، حيث ذكر أولاً خلق آدم، وذكر تعلقه بالتراب، وهو من الأسباب، ثم ذكر وجوده ولم يعلقه بشيء إلا بقوله: (كن)(20)
والحاصل: إنّ الأمر الإلهي عبارة عن استناد الأشياء إلى الله تعالى من دون واسطة، وهو ملكوت الأشياء، فنسبة الأمر إليه تعالى تعني تلكم الجهة الخالية من الوسائط، والتي لا يتدرج الإيجاد فيها، ولا يتخلف.
وبعد هذه الوقفة نعود إلى الآية الكريمة: (يهدون بأمرنا) هل المراد به التشريعي، المتضمن للأحكام الشرعية، أو الأمر الإلهي الملكوتي الذي هو (كن فيكون)؟
ولكن إذا قبلنا أن الهداية التي هي للأئمة ليست بمعنى الإرشاد والإنذار الذي هو وظيفة الأنبياء، وأنها نوع تصرف في النفوس، فلابد لنا من الإذعان بأن (الأمر) أيضاً ليس هو التشريعي، لأن إبلاغ الأوامر التشريعية من وظيفة الأنبياء، لأنهم مبشرين ومنذرين، بل هو الأمر الملكوتي الإلهي.
وأما (الباء) في قوله تعالى: (يهدون بأمرنا) فإنها للسببية أو الآلة، مثل قولنا: فرحت بمجيئك، أي: فرحي بسببه، أو قولنا: كتبت بالقلم، ويكون معنى الآية الكريمة حينئذ: يهدون بسبب أو بواسطة أمرنا.
وأعود لأجمع أطراف الحديث مرة أخرى، فأقول ملخصاً: نتيجة لما سبق من تفسير الهداية والأمر، وبقرينة (الباء) تفيدنا الآيتان المباركتان أن الإمام يهدي الناس بإيصالهم إلى المطلوب، والأخذ بأيديهم ليرتفعوا من مقام معنوي إلى آخر – كل بحسب استعداده – بواسطة الأمر الإلهي الملكوتي الذي هو الوجه الباطن للأشياء.
فكما أن الأنبياء يهدون الناس بإراءتهم الطريق من خلال العقيدة الحقة وأحكام الشريعة، والأعمال الصالحة، فكذلك الإمام يهديهم بإيصالهم إلى المراتب العالية حيث الشهداء والصديقين والأولياء وحسن أولئك رفيقاً، كل بحسب استعداده وقابليته، كما قال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها)(21) وقال عزّ اسمه: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)(22) فإن الارتفاع في الإنسان إلى مراتب الكمال، وإن كانت ولايته بيد الإمام، إلا أنه متوقف على الاستعداد، وهو متوقف على العمل، وقد أكد ذلك القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وتختلف كل واحدة من الهدايتين عن أختها، فالأولى ظاهرية ترتبط بالعمل والاعتقاد، بينما الأخرى باطنية ترتبط بالنفوس مباشرة وترفعها في مقاماتها.
وإذا صحّ هذا الفهم فإنه يفتح لنا آفاقاً جديدة في بحوث الإمامة، أحاول الإشارة إلى بعض منها بقدر ما يسعه البحث: 
مرتبة يقين المطلع على الأمر
إذا كان الأمر الإلهي هو الوجه الآخر للأشياء، وهو الوجه الباطني لها، وكونها منتسبة إلى الله تعالى ومستندة إليه في كل وجودها وتمام فقرها، فمن البديهي أن يكون المطلع عليه ذا يقين خاص بالربوبية والألوهية لله سبحانه وتعالى، يقين لا يشوبه أدنى شك، وكيف لا؟! وهو يشاهد الكون كله – بأسبابه ومسبّباته - فقيراً إلى الله تعالى، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا حياة، ولا موتاً، ولا نشوراً، فيصبح موقناً بأن لا إله إلا الله، ولا رب غيره، ولا معبود سواه.
وهذا ما حصل بالفعل لسيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام على ما حكاه القرآن الكريم عنه بقوله: (وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين)(23) وهي تفيدنا بوضوح أن رؤية الملكوت كانت السبب في حصول اليقين لنبي الله عليه السلام.
وهذا القرآن الكريم يدعو الناس كافة إلى التأمل في الملكوت ليحصل لهم اليقين التامّ بالألوهية والربوبية لله تعالى، كما في قوله: (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء...)(24) 
ومن الملاحظ أيضاً أن وجود اليقين – مضافاً إلى الصبر – شرط في إمامة الإمام، كما صرحت به الآية المباركة – مورد البحث – (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)، وأظن أنّ القارئ – من خلال البحث – سيوافقني إذا قلت له: أن الإمام لابد أن يكون قد انكشف له الملكوت، بل هو مصاحب له، لأنه السبب في هداية الناس، فهو يتمتع بأعلى مراتب يقين، وأقصى درجاته.
ولا يعجب القارئ حينئذٍ إذا تلوّت عليه ما جاء في الصحيح عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في تفسير الآية المباركة في رؤية إبراهيم عليه السلام للملكوت بما يتناسب وذهن مخاطبه، فقال: كشط لإبراهيم عليه السلام السماوات السبع حتى نظر إلى ما فوق العرش، وكشط له الأرض حتى رأى ما في الهواء، وفعل بمحمد صلى الله عليه وآله مثل ذلك، وإني لأرى صاحبكم والأئمة من بعده قد فعل بهم مثل ذلك.(25)
فالإمام يشهد من خلال الملكوت من جلال ربه وكبريائه وعظمته وكماله، ما لا حدَّ له من الجلال والكمال والكبرياء والآلاء ما يدفعه ليقول من أعماقه مناجياً ربّه: (بك عرفتك... وأنت دللتني عليك)، أو يقول: (سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)، أو يوصي ولده فيقول له: ولا تخرجنَّ نفسك عن حد التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإنَّ الله لا يعبد حقّ عبادته.(26)
المطلع على الأمر مهتد بالذات
إذا كان الإمام يهدي بالأمر الإلهي فلابد أن يكون مهتد بالذات، بحيث لا يحتاج إلى أحد يهديه، وقديماً قيل: فاقد الشيء لا يعطيه، بل كما قال تعالى: (أفمن يهدي إلى الحقّ أحق أن يتبع أمَّن يهدي إلا أن يهدي ما لكم كيف تحكمون)(27) فلا يكون في زمانه إمام غيره، ولا من هو أفضل منه في العلم والفكر والسلوك والأخلاق.
تمتّع الإمام بتمام اليقظة والالتفات إذا كان الإمام قد انكشف له الملكوت وبيده هداية الناس بواسطة الأمر الإلهي، فمن البديهي أن يكون هو متمتعاً بأعلى درجات اليقظة والالتفات، بحيث لا تتصور في حقه الغلة، ولا النسيان، ولا السهو، فضلاً عن المعصية، لأنها بأجمعها قد تؤدي إلى الضلال المضادّ للهداية.
أما المعصية فواضح كونها من الضلال، وأما السهو والنسيان والغفلة فهنّ كذلك، لأن الذي يصح أن يسهو فبالإمكان أن يسهو في الفكر، ويسهو في السلوك، ويسهو في هداية الناس، ويضع الأشياء في غير مواضعها سهواً وغفلة ونسياناً.
اجتماع النبوّة والإمامة 
الإمامة والنبوة قد تجتمعان كما في إبراهيم ونبيّنا عليهما السلام وقد تفترقان فيكون النبي ليس بإمام كما صرحت نصوص أهل البيت عليهم السلام بالنسبة إلى نبي الله لوط فإنه كان نبياً وعليه إمام هو إبراهيم، وقد يكون الإمام وليس نبياً كما في الأئمة من أهل البيت عليهم السلام الذين هم عدل القرآن بنصّ رسول الله صلّى الله عليه وآله في حديث الثقلين، فإنهم أئمة وليسوا بأنبياء، فإن النبوة قد ختمت برسول الله صلّى الله عليه وآله.
وبهذا نكون قد عرفنا أن للإمام دوراً مهمّاً في حركة الناس لا يمكن التخلّي عنه، لأنّه الرابط بين الناس وبين ربهم، فكما أن الأنبياء روابط بين الله تعالى وبين الناس في حركتهم الظاهرية، يتلقون شريعة السماء بواسطة الوحي ويقومون بدورهم في نشرها بين الناس وتعليمهم وإرشادهم وتهذيب نفوسهم، ويكونون القدوة العملية لجميع الأمة على مستوى الفكر والأخلاق والسلوك.
كذلك الأئمة روابط بين الله تعالى وبين الناس في حركتهم الباطنية، فهم يتلقّون الأمر الإلهي ويقومون بدورهم في نشره بهداية النفوس إلى مقاماتها، فهم الوسائط في تلقي الناس للفيض الإلهي.
وبهذا نحصل على التفسير الواضح للنصوص الكثيرة التي تؤكد على ضرورة وجود الإمام في الأرض، وأنه لو رفع الإمام لساخت الأرض بأهلها.(28)
ولعل منه قوله صلّى الله عليه وآله: (النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهب أتاها ما يوعدون، وأنا أمان وأهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون.
وعلق عليه الحاكم النيسابوري بقوله: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(29)
ومن البديهي أيضاً أن يكون الإمام مطلعاً على أعمال العباد، ليهيمن على مقاماتهم المعنوية، واستعداداتهم النفسية، وهو ما يؤكده قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّكم بما كنتم تعلمون )(30) وبقرينة قوله: (وستردون إلى عالم الغيب) نعرف أن رؤية الرسول والمؤمنين – الذين هم الأئمة بلا شكّ – للأعمال إنما هو في هذه النشأة، نشأة الدنيا، لا في الآخرة، كما هو واضح.
فلا نستكثر ما ورد في نصوص أهل البيت عليهم السلام من الأعمال تعرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى إمام العصر كل يوم أو في الأسبوع مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك على اختلاف في النصوص ففي موثق سماعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: (ما لكم تسوؤن رسول الله صلّى الله عليه وآله؟! فقال الرجل: كيف نسؤوه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسؤوا رسول الله وسرّوه.(31)
وعن عبد الله بن أبان الزيات – وكان مكيناً عند الرضا عليه السلام – قال: قلت للرضا عليه السلام: أدعُ الله لي ولأهل بيتي، فقال: أو لست أفعل؟! والله إن أعمالكُم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة.
قال: فاستعظمت، فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؟! قال: هو والله علي بن أبي طالب عليه السلام.
مسك الختام
اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبينك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللهم عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجّتك ضللت عن ديني.


الهامش: 
1 - البقرة: 124.
2 - الصّافات: 106.
3 - الميزان :1 / 271.
4 - السّجدة: 24.
5 – الأنبياء: 73.
6 - النّساء: 165.
7 - غافر: 38.
8 - الأنعام: 125.
9 - الزمر: 23.
10 – الميزان: 14/ 304.
11 - العنكبوت: 69.
12 - الشورى: 52.
13 - الدخان: 4 – 5.
14 - النحل: 96.
15 – الحجر:21.
16 - غافر: 67.
17 - ق: 38.
18 - يس: 82 – 83.
19 - القمر: 50.
20 - الميزان 13/ 197.
21 - الرعد: 17.
22 - فاطر: 10.
23 – الأنعام: 75.
24 - الأعراف: 185.
25 - بصائر الدرجات: 107.
26 - الكافي:2 /72.
27 - يونس: 35.
28 - أنظر بحار الأنوار: 1 / 23وما بعدها.
29 - المستدرك على الصحيحين 2 /448.
30 - التوبة: 105.
31 – الكافي: 1 / 219.